بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 16 أبريل 2012

رأس الاسد..

د. منى الخميسي
شغل رأس الأسد كل مساحة الشاشة الكبير. رفعت صوت التلفاز مأخوذة تتأمل عينيه فى انهبار: الحدقتان غائرتان فى جمجمة عملاقة، لم يطمس هذا الغور حدة نظراته ولا نفاذهما فى هدوء وبإصرار على ما تحجبه روح هذا الوحش فى صمت. ظلت نظراته ثابتة فى رفعة حتى عندما كان يخفض رأسه قليلا وكأنها تتبين هدفا بعيدا عسيرا، بينما تملل الجسد أحيانا فى جلسته فى رصانة فأتى بحركة هينة من حين لآخر أو برجفة خفيفة أرعشت معها الشارب فى الهواء، ثم عاد وسكن فى مكانه. اللحية الكثيفة الطويلة تكسو الوجه كله عدا مساحة صغيرة حول الأنف الأفطس فى الوجنتين المتوردتين المنتفختين انتفاخا قليلا. العنق فى حجم الرأس صب فوق منكبين مكتنزين على صدر منفتح فى ثقة وجمال. وحدهما اليدان كانتا فى حركة، تلوح إحداهما هنا وهناك تارة. وتارة تعبث الأخرى بشعر اللحية. ظلت تتمعن فيه مستغرقة: وحش بديع، وحش بديع حقا. انتقلت الكاميرا إلى أشلاء رجال بُعثرت فوق الأرض: بطون مبقورة لفظت أحشاءها، يوافيخ خاوية، أطراف أجساد ممزقة ومنثورة، وفوق هذا وذاك كله فيض غزير من دماء متخثرة حال لونها إلى السواد. خلف المشهد مدرعات محروقة ودبابات مهجورة وهى تخفض صوت التلفاز مهللة فى انتشاء وبهجة: انتصر «الأسد» وثبت من المقعد وأدارت شريط أغنيات مرحة شعبية، وبعنف راحت تدك بقدميها قاع الغرفة مع الطبول دكا وتدور وتصفق بكفيها فى الهواء وترقص وتقفز كمن أراد أن يرفرف ويحلق عاليا، بينما تتوالى لقطات التلفاز أمام بصرها صورا خرساء فى صحبة دقات النغم الصاخب. ارتدت ثيابها على عجل وهرولت إلى الشارع تحاول أن تخفف من اضطرابها وترسخ فى وعيها بهدوء أن النصر حقيقة. أحست بالهواء البارد ينعشها وقالت تحدث نفسها: نعم حقيقة.. حقيقة.. ولم تكن تلك الحقيقة عسيرة كما صُورت. لم تفرح منذ زمن بعيد، ولا عرفت البهجة منذ زمن أبعد. يأتى هذا النصر ليعيدها إلى طبيعتها المرحة المستبشرة التى فُطرت عليها. اعترتها خفة وراحت تردد: انتصروا.. انتصروا.. انهمر دمعها بغزارة وطنين الأناشيد الوطنية القديمة فى آذنيها عادت وضبطت المحطة الفضائية وجلست أمام التلفاز. لم يحن بعد موعد الخطبة. الآن حوارات مع رئيس الجمهورية والوزراء وزعماء الأحزاب ونجوم المجتمع، ثم جولة خاطفة فى شوارع العاصمة الصغيرة وصور لوجوه المارة وتسجيل تعليقات عامة الشعب، والزغاريد والورد وتوزيع الحلوى والطلقات النارية فى الهواء، وأكتاف تلاصق أكتافا وأكف تتشابك وسواعد يلتف بعضها حول بعض فى الدبكة. الناس فى ذهول، لم يعد أحد بعد ما حدث، الفرحة بالنصر أفقدت الجميع توازنه، كل النوافذ والشرفات مضاءة وكل أصحابها فى الشوارع. انتقلت الكاميرا إلى وجه الأسد يطل من بين أمواج بحر صفراء كالرمال. أعلنت المذيعة أخيرا بدء الخطبة. حمحم الأسد كمن يكتم زئيرا ومال برأسه إلى اليمين ثم خفضها قليلام وهو يبتسم ابتسامته العذبة عندما اندلعت الحماسة نيرانا فى بحر البشر من أمامه بالصراخ والهتافات، وضجت الحشود بالأناشيد والتهليل لم تكف عن البكاء فى صمت وهى تتابع أحداث الانتصار وتراقب هذا الأسد العربى بدقة وهو يقول: «إنه نصر مبين على إسرائيل.. بعد 43 يوما من الحرب.. أقرت وزيرة خارجية الكيان الصهيونى ألا قوة فى الوجود بوسعها نزع سلاح حزب الله.. واعترف الكيان الغاصب بالهزيمة رسميا..». لم تأبه كثيرا بما قال. الانتصار قال كل شيء. صبت اهتمامها عليه، على هذا الأسد العربى كان حديثه رغم الأحداث الضخام هادئا مترويا وصوته خفيضا. وجه عربى من الوجوه التى قد تلمحها كل يوم. وحدها نظراته تطوى ما يعتمل فى نفسه بعزيمة فولاذية لا تتأتى إلا للأسود. اللحية كثيفة، والعمامة ضخمة والعباءة فضفاضة والعينان نافذتان مثل الرماح، جالت بفكرها: حفنة من الأبطال.. حفنة صغيرة من الأبطال.. يا أمة الملايين!! هذه إحدى مجموعة قصص قصيرة مهداة إلى المقاومة العربية بكل فصائلها: اللبنانية والعراقية والفلسطينية، (لا أسكت الله حسها أبدا) سوف تصدر قريبا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق